الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران يكتب : على حافة الحرب أو كيفية شن الحرب على الحرب

HomeSociologyPolitics

الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران يكتب : على حافة الحرب أو كيفية شن الحرب على الحرب

تحت هذا العنوان أرسل الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران رسالة مفتوحة إلى صحيفة Ouest-France الفرنسية يحلل فيها مخاطر الحرب في أوكرانيا، ويتساءل عن أ

مجاهدون دمويون ومقنّعون وعاريات
الجغرافي الفرنسي رومان فوا: نهاية مشروع التحديث البعثي أنذر بزعزعة النظام
صفقة مع الشيطان: لبنان في ثلاثين عاماً

تحت هذا العنوان أرسل الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران رسالة مفتوحة إلى صحيفة Ouest-France الفرنسية يحلل فيها مخاطر الحرب في أوكرانيا، ويتساءل عن أصول الصراع، والخيارات غير المضمونة للخروج من الأزمة. ويتطرق الى موقع وموقف أوروبا من الحرب، فضلاً عن سياسات الولايات المتحدة وروسيا منذ نهاية الحرب الباردة. يتمتع أدغار مورين بشهرة عالمية، عايش القرن الماضي بأكمله مع بلوغه المئة عام هذه السنة وهو ما زال يتمتع بقوة ذهنية مميزة.

“بينما أكتب هذا النص، أتذكر الجزع الذي أصابني أثناء أزمة الصواريخ الروسية المزروعة في كوبا عام 1962. كنت آنذاك في المستشفى في نيويورك وكان صديقي ستانلي بلاستريك ينبئني يومياً بأن نيويورك في خطر أن تدمّر بقنبلة ذرية. ثم أتت التسوية بآخر لحظة وسحب خروتشوف صواريخه. اليوم بطريقة أخرى، أرانا على حافة الهاوية، وفي حالة عدم اليقين المطلق بشأن الغد.

البسيط والمعقد

دعونا نحاول أن نرى بوضوح، ما هو بسيط ومعقد في نفس الوقت. البساطة هي وجود معتدُ ومعتدى عليه، وأن المعتدي قوة عظمى، والمعتدى عليه أمة مسالمة. التعقيد هو أن المشكلة الأوكرانية ليست مأساوية ومفجعة للقلب فحسب، بل لها آثار متشابكة متعددة وأوجه مجهولة عديدة. دعونا نحاول بعد ذلك أن نرى ما يمكن أن نسميه حلاً سلمياً وليس سلام المقابر لأوكرانيا.

لا بد أن نتذكر أن أوكرانيا قسمت في نهاية القرن الثامن عشر بين بولندا (التي انقسمت هي نفسها) والإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية. الى حين نالت استقلالها خلال الحروب التي أعقبت ثورة 1917، لكنها هُزمت عام 1920 واندمجت بالاتحاد السوفيتي. لقد عانى فلاحوها من الكولخوزات والمجاعة الكبرى عام 1931 أكبر معاناة. وتهيأ لبعض الأوكراننيين لفترة وهم أن الفيرماخت (ألمانيا النازية) سوف ينقذهم. في عام 1941، أعلن الانفصالي بانديرا، الذي أصبح متعاونًا مع النازية، جمهورية زائفة مستقلة تحت الاحتلال الألماني. لكن الأوكرانيين شاركوا بقوة في مقاومة النازية.

خلال تفكك الاتحاد السوفياتي، حصلت أوكرانيا وبيلاروسيا على استقلالهما بالاتفاق مع روسيا ثم بقيادة يلتسين. ساء الوضع في أوكرانيا بالتزامن مع تفاقم العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. أوكرانيا ليست فقط فريسة جيوسياسية لروسيا وأمريكا، إنها فريسة اقتصادية كبيرة جدًا. إنها تمثّل أول احتياطي أوروبي من اليورانيوم، والثاني من التيتانيوم والمنغانيز والحديد والزئبق. لديها أكبر مساحة من الأراضي الصالحة للزراعة في أوروبا، 25٪ من التربة السوداء على هذا الكوكب، وتنتج وتصدر الشعير والذرة ومنتجات زراعية أخرى.

بعد ثورتها الديمقراطية، تعرضت أوكرانيا لضغوط متزايدة من روسيا وطمحت في العام 2014 للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ثم قام بوتين بضم شبه جزيرة القرم ودعم الانتفاضة ثم الحكم الذاتي لمنطقة دونباس الناطقة بالروسية. يجب الاعتراف بأن القرم هي مقاطعة تتار سكانها يتمتعون بالجنسية الروسية، وليست مقاطعة أوكرانية. وأن إبقاء دونباس في أوكرانيا يتطلب حلاً فيدراليًا.

برر بوتين تصرفه بإعلانه في 18 مارس 2014، “لقد كذبوا علينا مرارًا وتكرارًا، واتخذوا قرارات من وراء ظهرنا، ووضعونا أمام الأمر الواقع. حدث ذلك مع توسع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً، فضلاً عن نشر بنى تحتية عسكرية على حدودنا.” وفي الواقع، بدأت الحرب في دونباس آنذاك على الرغم من اتفاقيات مينسك ولم تتوقف حتى اليوم.

في مقال نشرته صحيفة لوموند في 3 مايو 2014، كنت قد توقعت هذا الخطر وقلت: “لسوء الحظ، فإن عجز الغرب، فيما يتعلق بأوروبا، ليس فقط ذو طبيعة عسكرية، أو فقط قضية إرادة، إنه مشكلة لها علاقة بالفكر السياسي، وحتى بمجرد الفكر ببساطة. سيكون من المرغوب فيه أن يدرك هولاند وفابيوس ومانويل فالس التصاعد المرعب للأخطار هناك، وأن يقترحوا خطة السلام المتماسكة الوحيدة، وهي خطة أوكرانيا الفيدرالية، حلقة وصل بين الغرب والشرق. لم نعد في الوقت الذي يجب أن نسعى فيه إلى الأفضل، نحن في الوقت الذي يجب علينا فيه تجنب الأسوأ “.

أسباب تدهور الوضع

هذه العملية مدفوعة بأمرين: طموح بوتين المتزايد لدمج الجزء السلافي من الإمبراطورية الروسية بأراضيه، وما صاحب ذلك من توسع لحلف شمال الأطلسي في محيط روسيا. ويمكن إحالة الوضع بشكل أعم الى تضارب المصالح المتصاعد بين القوتين العظميين بعد فترة اتفاق بوش-بوتين لعام 2001.

حصلت مذاك إعادة بناء روسيا كقوة عسكرية عظمى، وإنشائها لمناطق نفوذها في سوريا وإفريقيا، وإعادة دمج الشيشان بشكل دموي خلال حربين (1994-1996 و1999-2001). أضف الى ذلك التدخل العسكري في جورجيا (2008) ثم الضغط المتزايد على أوكرانيا. كانت هناك في الوقت نفسه، بدون تفويض من الأمم المتحدة، الحرب الثانية لغزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، وهي حرب كارثية على الشرق الأوسط بأكمله، تلتها حروب داخلية على الأقل حتى عام 2009، وغزو ليبيا في عام 2011.

وأخيرًا خاضت الولايات المتحدة حرب أفغانستان بين عامي 2001 إلى 2021.

بينما كان الرئيس الأمريكي قد وعد غورباتشوف شفهيًا في عام 1991 بأن الناتو لن يمتد إلى الديمقراطيات الشعبية السابقة، تم ضم الناتو عام 1999، وبناءً على طلبهم، لدول بولندا وجمهورية التشيك والمجر ثم جمهوريات البلطيق وتبعتهم رومانيا وسلوفينيا (2004) ثم ألبانيا وكرواتيا في عام 2004، مما أدى إلى تطويق روسيا بحكم الأمر الواقع (باستثناء خرقين في جورجيا وأوكرانيا). ذكّر هذا التطويق “الموضوعي” الكرملين بتطويق الاتحاد السوفياتي من قبل البلدان الرأسمالية في فترة ما بين الحربين العالميتين ونظرية الإحتواء خلال الحرب الباردة.

ومن ثم على المستوى الشخصي تطور الوسواس النفسي لدى بوتين وتصلب نظامه الاستبدادي.

تحت غطاء الحرب ضد أفغانستان، أقامت الولايات المتحدة قواعد عسكرية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة في الجنوب، في أوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، لتواصل بشكل فعال تطويق سيبيريا. إذن لا يمكننا التغاضي عن دور احتدام الصراع المتزايد بين قوتين عظميين لتوسيع أو حماية منطقة نفوذهم في الصراع الحالي، ولا دور تطويق الناتو لمحيط روسيا. الحدث المهم هو أنه منذ الانسحاب من أفغانستان، باتت الولايات المتحدة مصممة على تجنب أي حرب بعيدة وأن الحكومة الأوكرانية تطمح لأن يحميها الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن فلاديمير بوتين يشعر أكثر فأكثر أن ما هو مسموح به للولايات المتحدة، ولا سيما التدخل العسكري في الدول ذات السيادة، يتم إدانته بالنسبة لروسيا. وهو لن يتسامح مع توجه أوكرانيا غربًا.

إنه يعلم أن الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً إذا قام بغزو أوكرانيا. ربما كان يفكر في غزو سريع وقد قام بالفعل بتنظيم احتياطيات في حالة العقوبات الاقتصادية التي يقلل من أهميتها على المدى الطويل، لكنه ربما اعتقد أنه سيتم تسوية كل شيء على المدى القصير.

بدون الرغبة في الخوض في تحليل نفسي، لكن يمكنني أن أتخيل تطور هذه الروح الاستبدادية، التي تعتبر أن هناك تحلل وانحطاط في الديمقراطيات الغربية، فتزيد من تشدد نظامها العسكري والبوليسي. وقد اعتقد بوتين لفترة في عام 2001، بودّ متبادل مع بوش، أن الولايات المتحدة ستعامل بلده العظيم بكرامة. إنه يميل إلى إخفاء حقيقة أنه بحروبه في الشيشان، وتدخلاته في جورجيا وأخيرًا في أوكرانيا عام 2014، وضع أمريكا وأوروبا في حالة تأهب. بوتين، الذي كان حذرا وماكرًا في البداية، أصبح جريئًا في عام 2014 وهو الآن مشحون بغضب رهيب.

يجب أيضًا ملاحظة أنه بينما كانت القوات الروسية تتموضع على الحدود مع أوكرانيا، ألقى بايدن خطابًا متشددًا في 1 مارس 2022 بالكلمات ولكن حيث توجد عبارة صغيرة مغزاها كبير: “لن نذهب إلى الحرب” والتي، مع كونها شرعية، أفقدت الولايات المتحدة قوتها في توازن القوى. وبالمثل، لم يفكر أي شخص، ولم تفكر أي حكومة في أوروبا في خوض حرب من أجل أوكرانيا التي تم غزوها، على الرغم من مناشدات الرئيس زيلينسكي المستمرة ومحاولات ماكرون المتعددة للتفاوض مع بوتين.

صعوبة شن الحرب على الحرب

لا شك في أن المقاومة البطولية للرئيس زيلينسكي وحكومته والشعب الأوكراني فاجأت بوتين وأثارت إعجابنا. حتى أنها جعلت بوتين يتخلى عن أكذوبة التشويه الهائلة بأنه سيحرر أوكرانيا من النازيين، إنه يتحدث الآن عن القوميين الأوكرانيين. لقد ساهم بحربه بلا شك بتوحيد أوكرانيا الديمقراطية والقومية.

وبالمثل، فإن حرب بوتين توحد أوروبا، في رفضها لها وردود فعلها، على الأقل لبعض الوقت. يحاول الغرب فعل كل شيء باستثناء الأساسي، الحرب نفسها: ستكون هذه كارثة عامة ستغرق أوكرانيا وأوروبا وأمريكا في حرب عالمية جديدة مرعبة.

ومن هنا كان الرد استجابة اقتصادية بحتة عبر العقوبات المتعددة والمعممة (أنا شخصياً أكره بشدة العقوبات التي تؤثر على الثقافة والموسيقى والمسرح والفنون)؛ ثم تم تعزيز الرد من خلال المساعدات الاقتصادية، ثم المعدات العسكرية لأوكرانيا، وتنظيم استقبال اللاجئين. ثم تم تشكيل فيلق من المتطوعين للقتال في أوكرانيا. أحد جوانب المأساة هو أننا لا نستطيع تحمل عبئ الضعف ولا القوة وسنضطر للتراوح بين الاثنين بلا أي ضمانة.

بعد قولي هذا، أتذكر أن العقوبات تؤثر أيضًا على من يفرضها. وبالتالي ستخاطر أوروبا بنقص الغاز والمنتجات الأخرى.

ستكون الحرب الاقتصادية فعالة على المدى الطويل، ولكن أثناء ذلك من الممكن أن يجري ابتلاع أوكرانيا. ويمكن أن يكون للعقوبات تأثيرات كبيرة في روسيا، وإفقار السكان، وإثارة معارضة قوية (المعلومات الحقيقية تصل بالفعل من خلال ألف قناة وقناة خاصة في المدن الروسية)، أو تقوية السلطة الاستبدادية لبوتين أو الإطاحة بها.

ما هو الحد الفاصل بين الحرب الاقتصادية والدعم بالأسلحة والعمل التطوعي والحرب نفسها؟ إنه القصف ومشاهد الأنقاض والقتلى والنزوح الذي ضرب سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان وكان بعيدًا عنا، والآن أصبح على عتبتنا.
هنا يأتي تهديد بوتين المتكرر باستخدام السلاح الذي لا رد له، ضد أولئك الذين يهاجمون روسيا: “ستتحولون الى شظايا”. هل سيتمكن، في حالة غضبه المفرط، من اتخاذ إجراء من هذا القبيل؟ مهما كان الأمر، فإن الانزلاق نحو حرب تتجاوز في رعبها الحربين العالميتين السابقتين، ليس مستحيلا.

وأنا أكتب هذه الأسطر لم تسقط كييف. بذل ماكرون جهدًا جديدًا وشجاعًا مع بوتين، لكن دون نتيجة. كل شيء غير مؤكد، كل شيء خطير. سيكون الحل الوسط المقبول للجميع هو أوكرانيا المحايدة والفيدرالية، بالنظر إلى تنوعها العرقي والديني. لكن يبدو صعباً الوصول إليه حاليا.

إن التسوية السلمية للحرب ستسمح بمزيد من المفاوضات العامة بين روسيا والولايات المتحدة وأوروبا، ولا أعرف ما إذا كانت الوحدة التي عبّر عنها الاتحاد الأوروبي خلال الأزمة ستستمر؛ سيكون هناك عنصراً جديداً: إعادة التسلح الألمانية، والتي ستمنح ألمانيا هيمنة لن تكون اقتصادية فقط. وبانتظار حل افتراضي، يبقى الخطر الدائم قائمًا.

هل سنجد طريق الصواب بين الضعف المدان والتدخل غير المسؤول؟

المصدر: اضغط هنا