إنها مبادرة فريدة من نوعها أطلقتها ثلاث أستاذات في جامعة مرسي في جورجيا: دراسة النسيج بكافة ألوانه، والتعبير ليس مجازيا، لأن الدورة المخصصة له في قسم
إنها مبادرة فريدة من نوعها أطلقتها ثلاث أستاذات في جامعة مرسي في جورجيا: دراسة النسيج بكافة ألوانه، والتعبير ليس مجازيا، لأن الدورة المخصصة له في قسم الدراسات النسوية تجمع بين البعدين النظري والعملي، وتتطرق لجميع مراحل حياة القماش ونسجه وصولاً الى صبغه بألوان طبيعية.
بدأت القصة مع الأستاذة ماري آن دريك، التي كانت تشغل يديها بالحياكة أثناء الاجتماعات واللقاءات المختلفة في حرم الجامعة. مما أثار فضول الطلاب الذين كانوا يتحلقون حولها ليطرحوا عليها أسئلة مختلفة، بدءا من أكثرها بداهة: “ماذا تفعلين ولماذا؟”
شيئاً فشيئاً أدركت الدكتورة دريك نفسها أن حواراتها مع الطلاب تتجاوز موضوع الحياكة، للتطرق لتاريخ النسيج، وأنواع الخيوط والأقمشة المختلفة، وطرق صنعها وتلوينها، والأيدي التي صنعتها عبر التاريخ. من هذه المناقشات، نضجت لديها فكرة تحضير حلقة دراسية حول الموضوع في الجامعة، وشرعت بها بدءاً من العام 2009 مع زميلتيها الأستاذتين الجامعيتين، ليندا هنسل وفرجينيا يونغ.
خلال الدورة الدراسية التي أطلقن عليها اسم “فن النسيج والثقافة”، لم يتعلم الطلاب الحياكة فحسب، بل بدأوا من تربية ديدان القز لإنتاج الألياف ومن ثم استخراجها وغزلها، الى صنع القماش نسجاً وحياكة، وصولاً الى صباغة القماش. ومن أجل أن يكون العمل في الصف أقرب ما يكون الى واقع الحرفة، أحضرت المعلمات نول ضخم إلى قاعة المختبر المخصص للعمل اليدوي، واستقبلن في الصف حرفيين يمتلكون مهارات متنوعة من تقنيات الغزل، مما أتاح للطلاب التعرف على هذه التقنيات بتفاصيلها وطرق تنفيذها خطوة خطوة.
وحسب دراسة أعدتها الاستاذات الثلاث عن الدورة كان أكثر ما أثار اهتمام الطلاب هو العمل على غزل الألياف لاستخدامها في النسج أو الحياكة أو الكروشيه. فشاهدوا بشكل حيّ كيف تنتج ديدان القز الحرير عبر مسامها وهو ما بدا لهم كالسحر الذي يتحضر تحت أنظارهم. ومن ثم كيف بإمكانهم هم تحويل الألياف الطبيعية الخام الى ألياف للحياكة، مما جعلهم يفهمون مهنة الحرفيين والحرفيات ويقدرون كل ما تتطلبه من دقة وجهد وصبر.
مع هذا العمل الاختباري تأتي الدراسات والمناقشات النظرية لتعزيز فهم الطلاب لكيفية تحول هذه الألياف البسيطة بإرادة الإنسان وإبداعه عبر التاريخ إلى “سلاح غير مرئي سمح للجنس البشري بغزو الأرض”، وفقا لاقتباس من أحد الأعمال المرجعية حول تاريخ النسيج. وكان ذلك فرصة لإعادة اكتشاف دور النساء على مدى قرون في اكساء البشر وإثراء اقتصاد خزائننا عبر التاريخ، مما أتاح للإنسان أن يصمد أمام الطبيعية وصعوباتها وتقلباتها.
أحد الكتب المرجعية المستخدمة في الدورة هو كتاب آلا مازيليف، تحت عنوان معبّر: “حرّك هواياتك” حيث تكتب: “إن تكريس الوقت لهذه الأنشطة التقليدية التي تستغرق وقتاً طويلاً يعزز فكرة الاختيار الواعي لدى المرء، فضلاً عن تعزيز شعوره بأنه مسؤول عن حياته ووقته” على عكس العمل التنفيذي والمحدود الذي يميّز أكثر المهن الحديثة ويحدّ من قدرة الانسان على الشعور بأنه أنجز عملاً متكاملاً يحمل بصمته الشخصية ويكون مدعاة لفخره.
وتتطور هذه الحرف بشكل ملفت عبر العالم عبر رواد أعمال شباب يعملون على إعادة الاعتبار لهذه الحرف التقليدية التي تراجعت كثيراً بفعل الإنتاج المكثّف والصناعي. لكن أيضاً للمساهمة في حماية أجسادنا وبشراتنا وجهازنا التنفسي، كبديل مما هو متوافر في أسواق الألبسة والقماش عموماً، والذي يلقى نقداً متزايداً ويعتمد على دراسات علمية تبيّن مخاطر الأنسجة الاصطناعية على صحة الإنسان وعلى محيطه الطبيعي.
كما أصبح إتقان حرف الحياكة والنسيج والغزل وصباغة الألياف بألوان طبيعية في أساس الفنون الإبداعية المعاصرة ليس للكساء فقط، بل في اعتماد القماش والمعارف الحرفية في النسج والصبغ كمادة للعمل الفني. فتكثر مؤخراً معارض الفنانين التي يستوحون أعمالهم من المعارف التقليدية في صناعة السجاد أو تزيين الأقمشة وتطريزها ورسومها وألوانها، والملفت للنظر هو إشراك الحرفيين والحرفيات في تحضير أعمالهم والتعلم منهم وعرض أعمالهم.
ويساهم في هذه الحلقات الدراسية عدد من الأساتذة في فروع أخرى بإعطاء دروس مختلفة حول النسج والحياكة عبر التاريخ، وعبر المناهج المختلفة كالاقتصاد والتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا. ومن الملفت للنظر أيضاً هو اختيار بعض الطلاب الذكور المشاركة في الحلقة مما يعيد الاعتبار أيضاً لحقيقة أن الرجال ساهموا أيضاً في أعمال النسج والحياكة حتى الثورة الصناعية التي أجبرتهم على الخروج من الاقتصاد البيتي والمحلي نحو العمل في المصانع والمكاتب، وتخصيص النساء في الأعمال التي أصبحت تسمى بالعمل المنزلي أو نشاطات لتمضية الوقت.
عدا أن هذه الدورات تتيح للطلاب الراغبين إمكانية صناعة بعض ملابسهم بأيديهم مما يعزز معرفتهم بنوعية الأقمشة وطرق نسجها وصبغها، ويشجعهم على شرائها من الحرفيين والحرفيات بدلاً من سوق الملابس الاستهلاكي الذي يفرض أذواق نمطية على البشرية بأكملها. كما يعون مدى استغلال العمال والعاملات بشكل خاص في البلدان الفقيرة وتخصيصهم في مهن محدّدة بدل العمل على تعزيز انتاجهم المحلي بكل تنوعه.
وهذا بعد مهم من ابعاد الحلقة الدراسية، أي الإطلالة على واقع صناعة الملابس وتجارتها في عالم اليوم. وإذا فكرنا بالموضوع قليلاً أمكننا التساؤل عن مدى تبديد الثروات الطبيعية عبر الإنتاج المكثّف والمعّد للإتلاف مع تغير الموضة، التي أصبحت مع الوقت فصلية لتتيح لصناعيي وتجار الملابس تشجيع الناس على تغيير ملابسهم بشكل دائم. هذا في زمن ينبغي على البشرية توفير الطاقة والحفاظ على البيئة. وفي زمن يتجه فيه الأفراد أيضاً للإبتعاد عن الذوق المنمط نحو المزيد من الحرية في خياراتهم الشخصية حتى لو تعارضت مع القناعات والأنماط السلوكية السائدة في محيطهم.
تنطوي الحلقة الدراسية أيضاً على بعد اجتماعي تضامني، ففي العام الماضي، صنع الطلاب ملابس للأطفال في مركز ولادة محلي، وقاموا بصنع قبعات للطلاب والشباب الذي يسكنون في محيط الجامعة وينشطون لمكافحة التنمر #HatNotHate التي تجري في إطار حملة وطنية عامة.
يبقى أن نشير الى أن هذه المبادرة الجامعية تعبر عن بداية تبقى حتى اليوم خجولة لانفتاح الجامعات على أنماط الاقتصاد والعمل الجديدة والبديلة عن اقتصاد السوق التقليدي والاستهلاكي، وتضع معارفها مباشرة في خدمة المجتمع لتشجيع المبادرات التي تذهب بهذا الاتجاه.