شاهدت قبل أشهر بالصدفة حلقة من مسلسل “فريندز” الذي عرض لأول مرة قبل ثلاثة عقود في أميركا. وفكرت كيف نجح هذا المسلسل بأن يطبع ذاكرة أجيال متتالية، وما
شاهدت قبل أشهر بالصدفة حلقة من مسلسل “فريندز” الذي عرض لأول مرة قبل ثلاثة عقود في أميركا. وفكرت كيف نجح هذا المسلسل بأن يطبع ذاكرة أجيال متتالية، وما زال حتى اليوم يعبر الزمن جيلاً بعد جيل؟
المسلسل كان ذكياً عندما وضع الصداقة في العنوان، وكان من السهل أن يسمى بأي اسم آخر: الشباب، المساكنة، حلو الحياة ومرّها، ألخ.
يبدو أن أهمية الصداقة في حياة البشر لم تتلاشَ عبر الأجيال. ربما لأنها لم تخضع لأي تنظيم اجتماعي صارم، كالزواج والتعليم والعمل، وأمكنها بالتالي أن تعبر جميع هذه المؤسسات.
دراسات عديدة أجريت حول المسلسل، لكن ما لفتني مؤخراً هو دراسة في علم الاجتماع للباحثتين البريطانيتين ساشا روزنيل وشيلي بادجيون. برأيهما أن نجاح المسلسل ناجم عن كوننا أصبحنا نضع الصداقة على مستوى موازٍ لخياراتنا الحياتية الكبرى كالزواج مثلاً، أو أحياناً كبديل منه.
بمعنى آخر، إتجه البشر في العقود الثلاثة الأخيرة شيئاً فشيئاً نحو تثمين الصداقات في حياتهم، بعد أن سادت لفترة طويلة ثقافة الثنائي- الزوجي أو الثنائي-الغرامي، أو ما يسمى “كوبل” بالأجنبية. وصداقات الكوبل إجمالاً مشتركة، وتنتمي الى ما يمكن تسميته بالعلاقات الاجتماعية، فلا تشبه ما تحمله الصداقة بين شخصين أو أكثر من حميمية.
ليس اختيار فايسبوك تعبير الصداقة لوصف العلاقات التي نقيمها على صفحاتنا بريئاً، لأنه استفاد مما تحمله في مخيلتنا جميعاً من مشاعر مستحبّة: ثقتنا بالآخر والاعتماد عليه والإخلاص المتبادل، خاصة حين نبوح بمكنوناتنا أو بلحظات ضعفنا أمام الأصدقاء دون غيرهم. حتى أن الخيانة في الصداقة تلاقي استهجاناً إجتماعياً أكبر من الخيانة في الحب.
لكن فايسبوك قصد في البدء جيل المراهقين والشباب عبر اختياره هذا التعبير. لأن الصداقة هي أول تجربة تواصل حميمية لديهم، وهي تسبق الحب وترافقه فيما تستمر أحياناً بعد نهايته. وتشير الدراسات إلى ان الصداقة في عمر المراهقة لا تتمحور على تمضية الوقت والنشاطات المشتركة فقط. إنها تكتسب أهمية خاصة في تكوين الشخصية المبنية على القيم الحياتية والاجتماعية، حيث ينخرط الأصدقاء في هذا العمر بنقاشات جدية فيما بينهم/هن حول هذه الأمور.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد استوحى فايسبوك أيضاً تعبير المشاركة (شارينغ) من الصداقة. فحين يُطلب من المراهقين الحديث عن أصدقائهم، فإنهم يركزون بالدرجة الأولى على ما يتشاركون به، فعدا مشاريع الترفيه واللهو، فإنهم يشدّدون على ما يحبون أو يكرهون أي ما يجمعهم من أفكار وآراء، وأسرار بالطبع (وهذه لها تطبيقات أيضاً ومنها محمية جداً أو تُتلف الرسائل الخاصة بسرعة).
منذ حوالي عشرين عاماً، بدأت الأجيال الجديدة تولد أو تكبر في زمن تلتبس فيه المسافات بين الصداقة الفعلية (أي وجهاً لوجه) والصداقة الإفتراضية. وعانت هذه الأجيال وما تزال من هذا الالتباس، إذ أنها لا تمتلك تجربة سابقة في الصداقة كأهلها.
وقد تعلمت على حسابها حول ما يجب أن تكشف أو لا تكشف من حياتها الخاصة للأصدقاء الإفتراضيين. ووصل الأمر حدود الانتحار أو الأزمات النفسية الحادّة، فيما عجز الأهل والمربّون عن تدارك الأمر، لأن زمن الإنترنت وسرعته هما اللذان أتاحا حرية كبرى للأولاد خفية عن أهلهم. ولا شك أن هؤلاء تأخروا كما تأخرت التكنولوجيا والتربية في مساعدتهم على التنبه لصعوبات حياة أولادهم الإفتراضية. لقد تطرقت للموضوع بتوسع أكبر في مقالة سابقة لي.
وماذا عن الأكبر سناً؟ في احدى الدراسات النفسية اعتبرت النساء ان حميمية الصداقات النسائية هي بنفس المستوى وجهاً لوجه أو في التواصل الافتراضي، فيما على العكس أعتبر أغلب الرجال ان حميمية العلاقات بينهم أقوى عبر وسائل التواصل.