تابروير أو قصة صعود وانهيار امبراطورية شيّدتها النساء

HomeWomen and Gender Roles

تابروير أو قصة صعود وانهيار امبراطورية شيّدتها النساء

إن إعلان شركة تابروير في بداية نيسان/أبريل الماضي عن احتمال توقف أعمالها بسبب ديونها المتراكمة وخطر خروجها من البورصة، يهدد قبل كل شيء بحرم

Femmes Entrepreneuses au Liban
هل استخف آدام سميث بتفاني والدته فأنتج نظرية اقتصاد المنفعة؟
تجربة عمرها عقود.. باحثة أمريكية ترصد قصص حائكات السجاد في ريف المغرب

إن إعلان شركة تابروير في بداية نيسان/أبريل الماضي عن احتمال توقف أعمالها بسبب ديونها المتراكمة وخطر خروجها من البورصة، يهدد قبل كل شيء بحرمان الآف النساء من العمل في البلدان الفقيرة، وهن ما زلن يعشن من بيع منتجاتها في بيوتهن، ويمكن أن ينتهي بهن الأمر بإدارة مخزون من السلع غير المباعة بمفردهن. هذا غير عادل على الإطلاق لأنه إذا كان المنتج بهذه الشهرة لدرجة أنه تحول إلى اسم شائع لأي حاوية بنفس الوظيفة، فإن القصة الحقيقية لهذه الهالة الاستثنائية للشركة وشهرتها العالمية هي أنها قامت على أكتاف النساء منذ بداياتها.

قلة من الناس يعرفون، على سبيل المثال، إنه لولا البائعة المتجولة براوني وايز التي اعتمدت “الحفلات المنزلية” كاستراتيجية للبيع عبر استخدام النساء في منازلهن لكانت الشركة أغلقت بعد أعوام قليلة فقط من انطلاقها.  ففي أحد الأيام من العام 1951 يستنتج إيرل تابر، مبتكر العلامة التجارية تابروير، أن مبيعاته تحقق أرقاماً خيالية في منطقة ديترويت حيث تعمل وايز، فيما هو وموظفيه خبراء المبيعات يكافحون من أجل تسويق المنتوج عبر محلات الأدوات المنزلية والمتاجر الكبرى دون نتيجة، فتبقى منتوجاته على الرفوف ولا تجد شارياً.

أمام خطر الموت الوشيك لشركته يتصل تابر بالسيدة وايز التي تشرح له خطتها في البيع، ولنا أن نتخيل مفاجأته حين اقترحت عليه سحب المنتوج عن رفوف المتاجر وتعميم استراتيجيتها عبر ما أسمته “حفلات تابروير” المنزلية التي تنظمها النساء ربات البيوت. وكان لقوة الاقناع لدى وايز مضافة لأرقام مبيعاتها المبهرة أن تدفعا تابر لتسليمها مباشرة إدارة كامل ولاية فلوريدا. والحقيقة أنها قدمت له فكرة تسويقية استثنائية، وهي بأن تتوقف الشركة عن الاستثمار في المتاجر، وفي أحسن الحالات يصبح المتجر كصالة عرض بينما المبيعات الأساسية تتحقق من المنازل. وهذا نموذج لا يضاهيه حتى الآن إلا البيع على الشبكة الإكترونية حيث يلجأ الشاري الى طلب المنتوج عبر الانترنت بعد رؤيته في المتاجر.

شئياً فشيئاً أصبحت وايز ثالثة نائبة رئيس له عبر البلاد، واشتهرت لدرجة أنها كانت أول امرأة تحتل غلاف البيزنس ويك عام 1954. كما قال عنها المذيع مورلاي سايفر نجم برنامج 60 دقيقة: ربما كانت خطة وايز للتسويق هي الأكثر براعة بين مثيلاتها لأنها تعتمد على الصداقة أكثر من اعتمداها على الإقناع والحجج.

بعد سنوات من تعميم استراتيجية وايز للبيع إنطلقت الشركة وحققت نجاحات منقطعة النظير عبر الولايات المتحدة. وهنا قرر إيرل تابر بيع الشركة، لكن كان عليه التخلص من المرأة التي صنعتها، فهي من ناحية شغوفة بعملها وتريد بالتأكيد معرفة مصير الشركة بعد بيعها، ومن ناحية ثانية تعرف أنه من حقها أن تقاسمه أرباح البيع. وبين ليلة وضحاها قرر طردها بشكل تعسفي، وعلى الأرجح بحجة واهية بأنها مثلاً لا تنصاع لقراراته وهي التي لم تتوقف يوماً عن مجادلته لإقناعه بأفكارها الجديدة. رفعت وايز دعوى على الشركة ورئيسها وحاربت بكل قواها للحصول علىى ما يعادل أجر عام كامل كتعويض. وبالتأكيد لم تكن على علم بأن تابر سيبيع الشركة مباشرة بعد ذلك.

وهكذا أصبح المنتج مشهوراً في جميع أنحاء العالم، ولكن ليس المرأة التي بدونها لم تكن الشركة لتنجو من بداياتها المحرجة قبل أكثر من سبعين عاماً. هذه القصة بقيت في غاية السرية لدرجة أن كاتب سيرة وايز اختار عنواناً رمزياً لكتابه: “نزع الختم عن حزمة تابروير”، وروى في مقابلة مدى دهشته وهو يعد الكتاب بأن أحداً لم يسمع بإسم وايز. بعد بضع سنوات، اختار أحد صحافي “الإندبندنت” الإنجليزية أن يروي ملحمة تابروير ودور وايز تحت عنوان معبّر “تابروير: التاريخ السري “.

لكن قصة وايز لا تتوقف عند نموذج الحفلات، فهي تكشف لنا كيف أن هذه المرأة البسيطة ودون شهادات تعليمية كانت، كي تربي طفلها وحيدة دون زوج، تتصل بالشركات لتبيع منتجاتها كبائعة متجولة. وحين اتيحت لها الفرصة أن تدير عمليات البيع عبر المنازل في شركة تابروير لم تتوقف عند ذلك، بل ابتكرت استراتيجيات تسويق خلَاقة اعتُمدت على امتداد القرن العشرين وما زالت حتى يومنا هذا. فإن كانت هذه الاستراتيجيات تنسب أولاً الى الولايات المتحدة الأميركية بلد ابتكار البيزنس وترويجه عبر العالم، ومن ثم الى الرجال الشهيرين في هذا المجال، فإن وايز كانت امرأة رائدة في مجالها بين مجموع هؤلاء الرجال وربما الأفضل بينهم. كما أنها مثلت بتجربتها الشخصية أحد المثل الثقافية القوية في بلدها: يستطيع الإنسان أن يبدأ من الصفر ويصل الى القمة أو على الأقل بإمكانه الترقي إجتماعياً من خلال العمل والإيمان بالتقدم، وهي التي دأبت على الترويج لهذه الأفكار بين النساء عبر المحاضرات أو بالكتابة.

ففي سبع سنوات قضتها وايز على رأس القسم الرئيسي للشركة “حفلات البيع المنزلية” أرست القواعد التالية:

  • البائع هو المستخدم، واحدة من أقوى الأفكار التسويقية. لا أحد يستطيع أن يفسر مصلحة المشتري أفضل من المستخدم إذا كان راضيا بالطبع.
  • إضفاء الطابع الاجتماعي على عملية الشراء من خلال الاجتماعات، المستهلك ليس وحده أمام المنتج على الرفوف، بل يتعرف الى مزاياه قبل شرائه. ويجد الضيوف أنفسهم في جو ودي وعائلي في الحفلات وليس في تبادل تجاري قائم على المصلحة.
  • وجود وايز الدائم في مسرح العمليات وليس خلف مكتبها فقط لتنفيذ الأعمال الإدارية.
  • دورات تدريبية دائمة تساهم بها وايز شخصياً، وتعمل فيها على تطوير استراتيجيات البيع من خلال التجارب الفعلية على الأرض.
  • اتصالها الدائم بمسؤولي المبيعات للإطلاع على ردود فعل البائعات ومشاكلهن في جميع أنحاء البلاد والعمل لحلها.
  • تطوير فكرة النشرة الإخبارية للشركة (النيوزلتر) لإشراك البائعة في حياة الشركة، فيصبح نجاح الشركة نجاحاً لها أيضا. فعبر ما أسمته “نيوزلتر وايز” كانت تنشر التعليمات التفصيلية لتنظيم حفلات ناجحة، وتشارك أخبار الشركة لتبادل التجارب وتعزير الروح الجماعية والاعتزاز بالإنتماء للشركة. كما كانت وايز تتوجه للنساء كما لو كن يحملن رسالة لتحسين حياة النساء من حولهن.
  • إرسائها لحفلة اليوبيل السنوي حيث تتبع البائعات دورات تدريبية على مدى أسابيع في إطار ما أسمته وايز “كلية تابروير للمعارف”. في ختامها تحصل النساء اللواتي حققن أفضل المبيعات على شهادة. وقد قالت أحد السيادات حين استلامها شهادتها: “بلغت الخمسين من عمري، ولم يصفق لي الناس بهذا الشكل ولا جرى تقدير ما كنت أفعله يوماً “

صحيح أنه يمكننا أن نأخذ على وايز إنها استخدمت القيم والعلاقات الانسانية من أجل الترويج لبضاعة الشركة، لكن هذا ما فعله الرجال في هذا المجال، مع الفرق انهم هم حصلوا على الشهرة والجاه، بينما هي طردت من عملها. والملفت للنظر أن الشركة استمرت بإتباع استراتيجية وايز بعد طردها وحتى اليوم، وأصبحت مبدأ رئيسياً من الترويج والدعاية على مدى النصف الثاني من القرن العشرين.

لكن الموضوع الأهم هو ما خلقه نموذج تابروير من حيث النظرة المتناقضة لتحرر المرأة وتأكيد ذاتها عبر العمل، مقابل تأبيد صورتها النمطية كربة منزل. فحتى وايز روّجت لفكرة أن المبيعات المنزلية تؤمن عملاً ثانوياً للمرأة ضمن مهامها الرئيسية أي العناية بالمنزل والعائلة. كما أن حاويات تابروير نفسها ترتبط بفكرة حسن أداء النساء لمهام إعداد وحفظ الطعام والتجهيز المنزلي.

لكن لا يمكننا إهمال قوة هذه التجربة في تحويل المرأة العادية في منزلها الى خبيرة تسويق تحقق مدخولاً لا بل أرباحاً مهمة أحياناً. وكثير من النساء اللواتي عملن مع الشركة أخبرن بعد ذلك أنهن طورن مهارات سمحت لهن بأن يصبحن رائدات أعمال ناجحات، ومنهن من استطعن تعليم أولادهن حتى الدراسات العليا وتحسين الوضع المادي للعائلة بشكل ملحوظ. ولم يكن مدخولهن إضافة لميزانية العائلة أو “اكسترا” كما كان تروّج له الشركة.

فضلاً عن ذلك بفضل الحفلات جرى تحويل المنزل كمكان لعمل يؤمن دخلاً للمرأة فلا تملّ بأداء مهامها المنزلية المتكررة يومياً. خاصة أننا نتحدث عن النصف الثاني من القرن العشرين حيث لم يكن متاحاً لأكثرية النساء الأميركيات فرصاً للعمل في خارج المنزل. قدمت تابروير أيضاً عبر حفلاتها حلاً مادياً ومعنوياً للأمهات الوحيدات اللواتي كن في سعي دائم لتأمين المصروف اليومي من خلال القيام بأعمال متقطعة.

وكان للحفلات تأثير كبير على اختلاف النظرة الى اللقاءات النسائية بعيدا عن النظرة النمطية حول تفرغهن للثرثرة والنميمة، فضلاً عن توفير مجالات للنساء للتواصل الاجتماعي وبناء الصداقات خارج الإطار العائلي والزوجي المحدودين، مما يتيح لهن الحديث عن مشاكلهن الشخصية والزوجية وتبادل النصائح.

وربما أهم الأثار الإيجابية هي ان النساء استخدمن مبيعات تابروير من أجل تنظيم حفلات منزلية خاصة بهن وليس كما كانت عليه الأعراف في أميركا الخمسينات حيث الحفلات كانت تحضّرها المرأة لزملاء زوجها في العمل أو للعائلة والأصدقاء المتزوجين وأولادهم. وكان على المرأة أن تبدو على أكمل وجه من حيث شكلها وحسن ضيافتها ونجاحها في إعداد وجبات الطعام تعزيزاً لصورة زوجها وسمعته. بينما كانت حفلات تابروير عملاً يؤمن مردوداً للمرأة، ووقتاً ممتعاً وفرصة لإثبات الذات والمقدرات بشكل حقيقي وليس عبر المظاهر الاجتماعية.

وأخيراً كان لتجربة النساء البائعات أثراً على أدوار النساء والرجال وتقسيم العمل المنزلي، فتتحدث الباحثة رونا كونيللي عن تجربة والدتها مع تابروير كالتالي: “والدتي، التي كانت دائما تهتم بأسرتها ومنزلها، رأت في الحفلات نعمة … لقد كانت فرصة لها لقضاء أمسية مع صديقاتها بينما كان والدي يعتني بي … “

وإن كانت سيرة براوني وايز تضعها في مصاف النساء الرائدات في مجالهن، فلم تكن حفلات تابروير قصة امرأة استثنائية واحدة بل مثلت تجارب خلّاقة لآلاف النساء عبر العالم. لقد ساهمت في تأمين عمل للنساء المحرومات منه، وأمنت لهن فرصة لتطوير وضع عائلاتهن وتعليم أولادهن، وغالباً ما أصبحت المرأة صاحبة الدخل الأساسي في العائلة. كما أظهرت هذه الحفلات ملكات النساء في إدارة الأعمال وأضفت قيمة على ما تفعله المرأة في منزلها من مهام متنوعة لا تلقى تقديراً مادياً واجتماعياً.

حسب معطيات شركة تابروير كانت تقام حفلة كل دقيقة وثلاث ثوان عبر العالم. ولم تكن كلها عبارة عن تكرار لنموذج واحد وحيد بل كانت تغرف من ثقافات مختلفة ومن ابداع النساء في تنظيمها.  في المكسيك مثلاً اعتمدت النساء الليلة المكسيكية كحفلة تقدم فيها المشروبات والحلويات والوجبات الشهية المحلية.

إن سبب تدهور شركة تابروير هو تنوع المنتوجات المشابهة والمنافسة القوية على الأسعار، فضلاً عن الوعي الاجتماعي المتزايد لمخاطر المنتوجات المصنوعة من مادة البلاستيك. لكنه يعود بجزء أساسي منه الى تطور عمل النساء خارج المنزل، أو قدرتهن على العكس على تأمين عمل حر لهن عبر المنزل، يعتمد غالباً على مهاراتهن الحرفية والتنظيمية التي لم تكن لها قيمة اجتماعية ومادية في السابق. وفي ذلك إثبات أن النساء اللواتي صنعن مجد الشركة كنّ السبب في أفولها.

وجب على شركة تابروير اليوم أن تعترف لهاتي النساء بفضلهن على نجاحها الباهر وتطورها العالمي. فبدل التفكير بخسارة موقعها في البورصة، بإمكانها إطلاق حملة عالمية لإعادة تجميع وتدوير نفاياتها البلاستيكية عبر العالم وبإدارة النساء اللواتي ما زلن يتعاملن معها. وفي ذلك تعبير عن مسؤولية اجتماعية إزاء لنساء والمجتمع والبيئة كما دعا اليه مؤتمر الأنيسكو في باريس قبل أسابيع، والذي تمحور حول اقتراح معالجات لدرء خطر نفايات البلاستيك على صحة الإنسان والبيئة ودور الشركات العالمية الحاسم في هذا المجال.